شهد البيتكوين ارتفاعًا كبيرًا خلال 2025 لامس مستوى 100 ألف دولار قبل أن يتراجع بحوالي 30% من أعلى سعر تاريخي له عند نحو 126,080 دولار . هذا التراجع أعاد إلى الواجهة سؤالًا كان يومًا يعد خيالًا: هل يمكن لبيتكوين أن يتجاوز حاجز 100 ألف دولار مرة أخرى قبل دخولنا عام 2026؟ لم يعد هذا التساؤل مجرد طرح نظري؛ بل أصبح واقعًا يتجلى في أسواق التوقعات واحتمالات يضعها المستثمرون بأموالهم، تدعمه تغيّرات هيكلية في مشهد التمويل العالمي . في هذا المقال، نستعرض ما تخبرنا به أسواق التوقعات عن احتمالات سعر البيتكوين، وكيف يمكن أن تؤثر الاتجاهات الاقتصادية الكلية على مساره، وما هي المؤشرات التي يجب على مستثمري العملات المشفرة مراقبتها عن كثب في الفترة القادمة.


أسواق التوقعات: ماذا تقول الاحتمالات حول مستوى 100 ألف؟

تعتمد أسواق التوقعات على ترجيح الاحتمالات بدلًا من السرديات الترويجية. حاليًا، تعطي هذه الأسواق إشارات مختلطة حول وصول البيتكوين إلى 100 ألف دولار قبل 2026، ولكن اللافت أنها أعلى من مثيلاتها في دورات سابقة عند مستويات سعرية مشابهة . هذا يعني أن حاجز 100 ألف دولار لم يعد يُنظر إليه كحلم بعيد المنال، بل تحول إلى سيناريو وارد ضمن التوقعات الأساسية للسوق . فعلى سبيل المثال، في منتصف ديسمبر أظهرت إحدى أشهر منصات التنبؤ (Polymarket) أن المتداولين يمنحون احتمالًا يقارب 56% لأن يتراجع بيتكوين إلى 80 ألف دولار قبل أن يصل إلى 100 ألف، مقابل 44% احتمال بأن يخترق 100 ألف أولًا – وذلك لعقد مُحدد ينتهي في 1 يناير 2026 . ورغم أن هذه الترجيحات لا تضمن شيئًا قطعيًا، إلا أنها مهمة لأنها تمثل أموالًا حقيقية يراهن أصحابها على النتائج، ما يجعلها مؤشرًا حيًا على ثقة السوق وتوجهاته . الجدير بالذكر أيضًا أن تذبذب احتمالات تلك الأسواق يرتبط غالبًا بصدور بيانات الاقتصاد الكلي وتطورات تدفقات صناديق الـETF، مما يدل على أن بيتكوين تُعامل اليوم كأداة مالية تتأثر بالعوامل الاقتصادية الكلية وليس مجرد أصل مضاربي منعزل .


إشارات الاقتصاد الكلي: القوى الكبرى التي تحرّك المشهد

إلى جانب معطيات السوق نفسها، تلعب العوامل الاقتصادية الكلية دورًا حاسمًا في رسم مسار البيتكوين المستقبلي. فيما يلي أبرز القوى الكبرى التي تؤثر على شهية المستثمرين وقدرة بيتكوين على تحقيق قمم جديدة:



التضخم والسياسة النقدية: لا يزال التضخم مرتفعًا نسبيًا مقارنة بالمستويات المستهدفة، بينما تستمر البنوك المركزية – وعلى رأسها الفيدرالي الأمريكي – في اتباع سياسة نقدية متشددة مع تأخير خفض أسعار الفائدة. هذا المزيج يُبقي شهية المخاطرة لدى المستثمرين محدودة. صحيح أن السياسة النقدية الصارمة قد تكبح جماح المضاربات على المدى القصير، لكنها أيضًا تعزز طرح بيتكوين كملاذ ضد تآكل القوة الشرائية للعملات الورقية على المدى الطويل – خاصة إذا بدأت العوائد الحقيقية بالانخفاض مستقبلًا . بكلمات أخرى، استمرار التضخم دون سيطرة تامة وتأخر تخفيف الفائدة قد يكون سيفًا ذو حدين: ضغط آني على الأصول عالية المخاطر، لكنه يقوي سردية التحوّط بالبيتكوين من تدهور العملة في الأفق البعيد.

توجهات الاحتياطي الفيدرالي: الأسواق تستبق دائمًا خطى البنك المركزي. مجرد توقع اتجاه الفيدرالي نحو تخفيف السياسة النقدية (خفض الفائدة أو وقف التشديد) يمكن أن يُحفّز ارتفاعًا في الأصول مثل بيتكوين. تاريخيًا، استفادت بيتكوين بشكل واضح كلما سادت توقعات بأن ظروف السيولة ستتحسن . فإذا قام الفيدرالي فعليًا بتخفيف قبضته أو أشار إلى نهج أكثر حيادية في عام 2025، قد تتغير المعادلة بسرعة لتصبح البيئة أكثر دعمًا للأصول الرقمية. السيولة الزائدة في الأسواق غالبًا ما تجد طريقها إلى استثمارات ذات عائد أعلى، وبيتكوين تقف في مقدمة المستفيدين المحتملين حينها.

تدفقات صناديق المؤشرات المتداولة (ETF) والوصول المؤسسي: إن إطلاق صناديق بيتكوين المتداولة في البورصة (خاصة الصناديق الفورية) غيّر قواعد اللعبة في سوق العملة الرقمية . فقد أصبح بإمكان رؤوس الأموال الكبيرة – التي كان يعوقها سابقًا غياب قنوات منظمة – الاستثمار في بيتكوين بسهولة عبر هذه الصناديق. التدفقات المستمرة إلى صناديق الـETF لا تدعم سعر بيتكوين فحسب، بل تسهم أيضًا في تقليص تقلبات السعر نزولًا وإضفاء شرعية على مستويات سعرية أعلى مما كان يُعتقد سابقًا . على سبيل المثال، سجل صندوق iShares Bitcoin Trust (IBIT) التابع لشركة بلاك روك تدفقات صافية تقارب 25 مليار دولار خلال عام 2025 ، مما جعله سادس أعلى صندوق على مستوى العالم من حيث جذب الأموال ذلك العام رغم أن أداؤه السنوي كان سلبيًا . هذا الإقبال المؤسسي الكبير – حتى في ظل تراجع السوق – يُظهر أن الطلب الهيكلي على البيتكوين يتصاعد على المدى البعيد. ولا عجب أن مؤسسات مالية رفيعة مثل بنك Standard Chartered لا تزال تتبنى نظرة متفائلة، حيث أكّد البنك مؤخرًا توقعه وصول بيتكوين إلى 100 ألف دولار بنهاية 2025 (وإن كان قد خفّضه من توقع سابق عند 200 ألف) مع استمرار إيمانهم بقوة الاتجاه الصعودي طويل الأجل . وجاء هذا التخفيض في التوقعات نتيجة فتور في وتيرة الطلب من الشركات وتباطؤ نسبي في تدفقات صناديق الـETF مقارنة بالزخم الذي شهدناه عام 2024 . رغم ذلك، يُبرز البنك أن المسألة تتعلق بهيكلية السوق واعتماد المؤسسات، وليس مجرد حركة سعر لحظية سريعة، مما يعني أن الارتفاع قد يأتي بشكل أكثر استدامة على المدى الأطول .


ديناميكيات العرض لا تزال مهمة: يجدر التنويه أن جانب العرض في معادلة السعر لا يقل أهمية عن العوامل الماكرو. المعروض من البيتكوين ثابت لا يتغير، لكن وتيرة إصدار عملات جديدة تنخفض بعد كل حدث تنصيف (Halving). بعد تنصيف عام 2024 انخفضت مكافأة التعدين، مما يعني طرح عدد أقل من البيتكوين في السوق كل يوم. في الوقت نفسه، يُظهر البيانات أن حائزي البيتكوين على المدى الطويل ما زالوا يحتفظون بما يملكونه ولا يندفعون إلى البيع حتى عند ارتفاع الأسعار ، بينما تستمر المؤسسات والصناديق باقتناص أي انخفاضات بشراء المزيد من العملات . عندما يتقلص العرض الجديد بهذا الشكل وتتوافر سيولة أعلى في الأسواق، تكون النتيجة عادة ارتفاعًا حادًا في الأسعار مع أي زيادة في الطلب، إذ يصبح هناك تنافس على عدد محدود من العملات .


ما الذي يجب على مستثمري العملات المشفرة مراقبته؟

في ظل هذه الصورة المركّبة، يتعين على المستثمرين في سوق العملات الرقمية متابعة بعض المؤشرات المفتاحية التي قد توضح الاتجاه القادم لسعر بيتكوين. فيما يلي أهم ما ينصح الخبراء برصده عن كثب:



صافي تدفقات صناديق الـETF مقابل ضغوط بيع المعدّنين: مراقبة حجم الأموال التي تتدفق إلى صناديق البيتكوين المتداولة مقارنة بحجم بيع المعدنين للعملات التي يستخرجونها. تدفقات قوية إلى الصناديق تعني طلبًا مؤسسيًا مستمرًا يمكن أن يوازن أو يفوق بيع المعدّنين، مما يدعم السعر ويحد من التقلبات. أما ضعف هذه التدفقات إلى جانب بيع مستمر من المعدّنين فقد يضغط على السعر مؤقتًا.

نبرة وتصريحات الاحتياطي الفيدرالي: كل تغيير في لهجة الفيدرالي الأمريكي بشأن أسعار الفائدة يؤثر فورًا على شهية المخاطرة. ينبغي الانتباه لما إذا كان الخطاب الرسمي يميل نحو تثبيت الفائدة عند مستوى محايد لفترة، أو يلمّح إلى خفض قريب. أي إشارة لتيسير نقدي يمكن أن تشعل موجة تفاؤل في الأسواق تدفع الأصول مثل بيتكوين للصعود.

مفاجآت بيانات التضخم: التقلبات غير المتوقعة في أرقام التضخم – سواء ارتفاع مفاجئ أو انخفاض أكبر من المتوقع – لها أثر كبير. ارتفاع التضخم فوق التوقعات قد يدفع البنوك المركزية لتشديد أكثر ويثبط الأصول الخطرة، بينما تراجع التضخم بوتيرة أسرع من المتوقع قد يفتح الباب لتيسير نقدي أسرع ويعزز الأصول مثل بيتكوين. لذا، متابعة بيانات مؤشر الأسعار والاستماع إلى تحليلاتها أمر أساسي خلال الأشهر المقبلة.

تغير احتمالات أسواق التوقعات خلال الأحداث الكبرى: رصد أسواق التوقعات نفسها وكيفية تغير تقديراتها لسعر بيتكوين عند صدور أحداث مهمة (كاجتماعات الفيدرالي أو تقارير الاقتصاد الرئيسية). إذا لوحظ ارتفاع سريع في احتمالات سيناريوهات صعودية أو هبوطية على المنصات التوقعية خلال حدث معين، فهذا يعكس إجماعًا مدعومًا بالأموال يستحق الاهتمام. هذه التحولات اللحظية قد تقدم نظرة ثاقبة لتوجهات السوق قبل أن تنعكس بالكامل في السعر الفوري.



بالطبع، أي عامل من العوامل أعلاه وحده قد لا يكون كافيًا لدفع بيتكوين مجددًا نحو مستوى 100 ألف دولار. لكن اجتماع عدة عوامل إيجابية معًا – مثل تدفقات مؤسسية قوية، وتحسن الظروف النقدية، وانحسار التضخم، وتفاؤل عام في أسواق التوقعات – قد يرسم خلفية مواتية تجعل الوصول إلى هذا المستوى الطموح أمرًا ممكنًا وليس مجرد ضربة حظ .



الخلاصة: 100 ألف لم تعد مجرد حلم بعيد المنال

مع اقتراب 2026، لم يعد سؤال وصول بيتكوين إلى 100 ألف دولار مبنيًا على الضجة الإعلامية أو التوقعات العشوائية. بل أصبح رهين التوقيت والسيولة ومواءمة العوامل الاقتصادية بالشكل الصحيح . حاليًا، لا تشير أسواق التوقعات إلى يقين تام ببلوغ الهدف – لكنها في الوقت ذاته تخلّت عن تشككها السابق وأصبحت ترى الأمر واردًا ضمن السيناريوهات المعقولة . أما على صعيد الاقتصاد الكلي، فلم تعد الرياح معاكسة بقوة كما في الماضي؛ التضخم تحت السيطرة النسبية وإن لم يُهزم كليًا، والفيدرالي يقترب من منعطف السياسة النقدية، والقنوات المؤسسية تضخ أموالًا جديدة في الأصول الرقمية. وإضافة إلى ذلك، يتمتع سوق البيتكوين اليوم بأساسيات أقوى وهيكلية أكثر نضجًا من أي وقت مضى. كل هذه العوامل تجعل مستوى 100 ألف دولار هدفًا “قابلًا للدفاع” عنه وفق تعبير المحللين – أي أنه لم يعد رقمًا خياليًا يصعب تبريره، وإن كان تحقيقه غير مضمون بشكل قاطع بعد. خلاصة القول، السيناريو الآن لم يعد هل يصل البيتكوين إلى 100 ألف، بل متى وكيف سيتم ذلك، وبأي سرعة واستدامة. الأيام وحدها ستخبرنا ما إذا كان عام 2025 سيُختتم على وقع هذا الإنجاز الكبير، أم سنحتاج لمزيد من الصبر في الدورة القادمة. لكن الواضح أن الأرضية أصبحت مهيأة أكثر من أي وقت مضى لرؤية بيتكوين وهو بتجاوز ذلك الحاجز النفسي التاريخي.