في فترات الاضطراب الاقتصادي العالمي، لا تحتاج الولايات المتحدة إلى رفع أسعار الفائدة كي تحكم قبضتها على النظام المالي الدولي. فهناك أدوات أخرى، أكثر هدوءا وأشد فاعلية، يمكن أن تؤدي الدور نفسة أبرزها الذهب والنفط. على الرغم من اختلاف طبيعتهما تمامًا، إلا أن ارتفاعهما المتزامن كثيرًا ما يعكس دورة انكماش نقدي عالمية تستفيد منها واشنطن في امتصاص السيولة الدولية وإعادة التموضع المالي للدولار.
الذهب: سحب السيولة عبر تجميد الثروة.
الذهب هو الأصل الأكثر صدقًا في كشف حالة السيولة العالمية. فعندما ترتفع أسعاره، لا يعني ذلك أن الذهب أصبح أكثر ندرة، بل أن المال فقد جزءًا من قيمته والثقة به تراجعت كما يحدث الان. حينها تتجه رؤوس الأموال إلى الذهب كملاذ آمن، فتخرج السيولة من الأسهم والسندات والأصول المنتجة لتتجمد في أصل لا يُستهلك ولا يُنتج.
بهذه العملية الصامتة، يقوم الذهب بدور مصفاة للنظام المالي بحيث يمتص الفائض النقدي ويخفض النشاط الاستثماري المفرط، تمامًا كما يفعل البنك المركزي عندما يشدد السياسة النقدية ولكن بطريقة طبيعية لا يمكن معارضتها سياسيا أو تشريعياً.
النفط: سحب السيولة عبر الطاقة والدولار.
بالنسبة للنفط فالالية أكثر مباشرة. ارتفاع أسعار النفط يعني ببساطة أن العالم بحاجة إلى مزيد من الدولارات لشراء الطاقة. وبما أن تسعير النفط يتم بالدولار حصريًا، فإن كل صعود في سعر البرميل يعني زيادة في الطلب على الدولار، مما يؤدي إلى تحويل السيولة من الاقتصادات الأخرى إلى النظام المالي الأمريكي.
في المقابل، ترتفع تكاليف الإنتاج في أوروبا وآسيا، وتنكمش هوامش أرباح الشركات، وتتراجع القدرة الشرائية، بينما تبقى الولايات المتحدة الأقل تضررا لأنها تمتلك قاعدة إنتاج ضخمة وتتحكم في بنية التسعير العالمية.
الانكماش المزدوج:
الذهب والنفط عندما يرتفعان معا في نفس الوقت فإن الأثر يصبح مضاعفا: الذهب يسحب السيولة المالية ويجمدها خارج الدورة الإنتاجية. والنفط يسحب السيولة الاقتصادية ويحولها إلى الدولار.
النتيجة: انكماش نقدي عالمي غير معلن، تتراجع فيه القدرة على الإنفاق والاستثمار، وتنكمش شهية المخاطرة، بينما تزداد قوة الدولار بوصفه مركز الجاذبية الأخير للسيولة الهاربة من التضخم والفوضى. واشنطن هي المستفيد الأول في مثل هذه الدورة، حيث تتحول الولايات المتحدة إلى ملاذ السيولة العالمي,
بالتالي , تتدفق رؤوس الأموال إلى سندات الخزانة الأمريكية، ترتفع قيمة الدولار، و تنخفض الضغوط التضخمية داخليا، وتصبح واشنطن قادرة على إعادة تمويل ديونها الضخمة دون رفع فائدة مفرط أو التضحية بالنمو.
اللافت أن هذه العملية لا تحتاج إلى إعلان أو اتفاق رسمي. كل ماتحتاج هو تغذية بعض التوترات في مناطق انتاج الطاقة وهو مايحدث سوا في منطقة الشرق الاوسط او افريقيا كفيل بإطلاق الدورة الانكماشية المزدوجة.
تاريخيا دورة النفوذ المالي حدثة في :
أواخر السبعينيات مع صعود أسعار النفط والذهب معا، ومنتصف العقد الأول من الألفية قبل الأزمة المالية 2008، واليوم مع تضخم عالمي غير مسبوق وديون أمريكية تتجاوز الناتج المحلي بعدة أضعاف لكن كل دورة تنتهي بالنتيجة نفسها: العالم يدفع الثمن، والدولار يخرج أكثر قوة.
الخلاصة:
عندما يرتفع كل من الذهب والنفط معا، فإن ما يبدو سوقا مضطربة في نظر العالم هو في الحقيقة عملية إعادة ضبط نقدي هادئة تقودها واشنطن. الذهب يجمد السيولة، والنفط يسحبها نحو الدولار، والدولار يستعيد هيبته كالمركز الوحيد القادر على ابتلاع فائض المال العالمي


